ما لم يعرفه البعض عن الطائف...

مشاركة


لبنان اليوم

 

*الدكتور رائد المصري

بهدوء...فالإصلاحات الإجتماعية والسياسية التي ساقها إتفاق الطائف يحكمها التضارب في القرارات التي تظهَّرت مؤخراً بشكل مخيف بعد إنهيار الدولة، وبات متعذراً على هذا النظام الكولونيالي والقيِّمين عليه أن يُكمل أو يُعيد إنتاج سلطة ولو بالحدِّ الأدنى، فالمعضلة في هذا النظام الطائفي اللُّبناني أنه فشل في إيجاد قواسم مشتركة بين المواطنين، وبالتالي فشل في أن يكون أداة حكم ناجحة، وهو لذلك يؤكّد من جهة بأنّ المذهب والدين سيُلْغى ذكرهما من الهوية الشخصية، لكن من جهة ثانية بقيَ النظام الإنتخابي قائماً على التمثيل الطائفي الذي يحتّم ذكر الطائفة على إخراجات القيد، وهو ما يجعل إلْغاء ذكره من الهوية دون معنى ولا دلالة إجتماعية أو سياسية له.
فقد أبْقت السلطة الحاكمة على البُنى السياسية التقليدية والقائمة على الهوية الطائفية والمذهبية، وتجاهلت بناء مواطنة حيّة وحرّة ومتحرِّرة من القَيْد الطائفي والمذهبي. فنجد أن الدستور القديم كان قد ضَمِن ولو نظرياً حقوق المواطنين ومساواتهم أمام القانون، ليأتي إتفاق الطائف الذي مثّل نقلة خلفية وإرتداداً إلى الوراء، إذ أصبح لكلّ لبناني إنتماءاً أو وجْهاً مزدوجاً جراء ثنائية القوانين، ممَّا أضعف الحسَّ الوطني وصار هناك وجود لمواطن مسيحي ومواطن مسلم. ولا يعترف الطائف بمواطنية أي دين أو مذهب آخر، كما لا يعترف بمواطنية العلماني الذي لا يريد أن ينتمي إلى أي توجّه ديني في السياسة، وهذا بدوره يتعارض مع شرعة حقوق الإنسان التي وقّع عليها لبنان، والتي تحفظ حقوق المواطن بمعزل عن دينه أو جنسه أو معتقده أو أصله.
إتفاق الطائف قَطَعَ الطريق على كلّ من يؤمن بالمواطنية، فقبلُ، كان بإستطاعة المواطن أن يلجأ إلى دستوره غير المطبّق، ليحتميَ به من تعسّف الطوائف بما أنه لم يكن يعترف بالطوائف كهيئات قانونية، وأُدْرجت المادة 95 كوضع إستثنائي خارجة عن السِّياق العام الذي يؤكِّد على حقوق المواطنية من دون أن تطبَّق أو تفعَّل حتى يومنا هذا، وهو ما شكَّل خرقاً وضرباً للدستور من قبل كلِّ من تعاقَب على الحكم.
فالدستور يجب أن يشكِّل منارة الشعوب وفسحة إستقرارها، بينما نجد بأن إتفاق الطائف قد إعترف بهيمنة الطوائف، ولم يسمح حتى لنائب واحد بأن يمثّل الشعب على أساس علماني لا طائفي أي إلْغاء الطائفية السياسية. ولأنّ إتفاق الطائف، بعكس الدستور القديم، يحدّد مرجعية الوطن بالطوائف والمذاهب، يقود ذلك إلى أنّ قرارات مجلس الوزراء يجب أن تتمَّ بالتوافق بشكل أساسي، وهو ما يؤدّي وقد أدَّى إلى القضاء على مبدأ فصل السلطات بين تشريعية وتنفيذية وقضائية.وهذا بدوره عطَّل الدولة بمؤسّساتها الحكومية والتي يُفترض بها أن تمثّل المواطنين ومصلحتهم، فلا وجود لها في لبنان. حيث أن ما نراه أو نعايشه اليوم هو كوكبة من الطوائف المُغْلَقة المتحكِّمة بالسلطة بناء على الوفاق الوطني للقادة السياسيين. إذ في إستطاعة كل طائفة كبرى أن تهدّد بحقِّ النَّقض لقرارات الطائفة الأخرى، كما تستطيع أن تحصّن نفسها وتعمل بإستقلالية وهامش واسع في ما يختص بأمورها الداخلية.
فهذا النظام التوافقي هو أداة تستعملها بعض المجتمعات المنقسمة على نفسها إثنياً بهدف تأمين الإستقرار وحلّ الأمور الشائكة على مبدأ التنازلات المتبادلة والتكيّف مع الأمر الواقع. حيث أنّ الكثيرين من علماء السياسة يرون أنّه من المستحيل بناء دولة مستقلة أو ذات سيادة في مجتمعات منقسمة على ذاتها بحدّة. لذا لم يستطِع النظام التوافقي في لبنان أن يمنع الحروب الأهلية والإقتتال الطائفي ولم يساهم في إرساء اللُّحمة بين الأطراف المتنازعة، والنظام التوافقي لم يتقدَّم خطوة بإتجاه الدولة الديموقراطية، بل على العكس فقد رسّخ العصبيات الدينية والطائفية والمذهبية ووسَّع الهوَّة بين المواطنين على إختلاف إنتماءاتهم..
هذا النظام التوافقي قاد إلى شلل تام في القرارات السياسية، فكلّ أزمة أو حراك بين الطوائف لا يقود إلى التغيير بل بالعودة بالأمور إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.
ويصبح التحجّر ملازماً لهذا النظام ولِبُنية المجتمع، إذ تكون الطوائف في حالة رعْب دائم مخافة أن يأتي التغيير على حسابها. وتصبح المحافظة على الأمر الواقع الهدف الأسمى للطائفة المُمسكة بالسُّلطة. وتقاوم هذه الطائفة المهيمنة بشراسة كلّ محاولات الإصلاح السياسي كي لا تخسر الإمتيازات التي حازت عليها.
وفي ظلِّ الحكم التوافقي تتمُّ المحافظة على الأوضاع الإنعزالية والتقوقع لكلّ طائفة ورفض مد الجسور لرَدْم الهوَّة بين الطوائف والمذاهب، لأنّ الإختلاط بحسب مفهومها يشكل تهديداً جديّاً لنظام الطائفية السياسية برمّته وللميثاق الوطني المبني أساساً على إنقسام الطوائف، لتنخرط نخبة أو قلة صغيرة جداً في إتخاذ القرارات السياسية، بينما لا يُسمح للمواطن بالمشاركة لأنّ ذلك يتضارب مع مصالح زعماء الميثاق.
نخبة قليلة العدد تسيطر على الحكم لفترات طويلة لأنّها تترأس طوائفها فلا تتغيّر وجوه قادة الحكم، بل يجاهدون لتوريث أولادهم الحكم. فالمعضلة في النظام الطائفي اللُّبناني أنه فشل في إيجاد قواسم مشتركة بين المواطنين، وبالتالي فشل في أن يكون أداة حكم ناجحة، فهو يعتمد كنظام توافقي لإدارة أعماله على المحسوبيات والزبائنية، حيث تتبادل الطوائف الخدمات ومن يعطي أو يمرر خدمة لطائفة اليوم يحصل على بديلها في الغد. وبالتالي ينتج عن حكم هذا الكارتل الطائفي حظْر للمعلومات التي تتعلَّق بالإرتكابات والإنتهاكات وإبقائها طيَّ الكتمان الشديد، بهدف مضاعفة القادة الطائفيون لمكاسبهم، وهو ما يحجُب أية إمكانية لترسيخ الديموقراطية بما أنّ المواطنين يجهلون الحقيقة وبالتالي عاجزون عن القيام بالخيارات الصحيحة.وهذا بدوره يسدُّ كل منافذ المواطنية، فيقف عائقاً أمام المواطن العادي الذي يحاول أن يمثّل على أساس لاطائفي، ويصبح عُرضة للمحرَّمات السياسية والمجتمعية كرفض القيمين على السلطة إجراء أي إحصاء سكاني كي لا تهتز تراتبية الطوائف.
القاعدة العامة تقول بأن لا حصانات ولا نصوص ولا دساتير ولا قانون أسمى من تحقيقِ العدالة. وفلسفة حصانة النائب والوزير تأتي هنا من أجل المبالغةِ والغلوِّ في الدفاع عن الحق وحمايته من الإرتكابات، فبدلَ أن يرتابَ القاضي في لبنان بمدعى عليه يرتابُ المدعى عليه بالقاضي.
إنه نظامِ محمياتٍ لـ بطريرك ومفتي وشيخ يضعونَ معاييرَ الملاحقةِ القضائية تحت عنوان الخطٌّ الأحمَر، حيث بإمكانكَ أن ترتكبَ ما شئتَ من الموبقاتِ والإختلاساتِ والصفقاتِ والسمسراتِ والسرقاتِ وتشيّدَ القصورَ في لبنان والمهجر دون أن يتجرأَ أحدٌ على محاسبتك تحت شعار أنتَ خط أحمَر.
نحن في لبنان يبدو أنه لا أمل لنا في بناء دولة عصرية مدنية يحكمها سيادة القانون وقوية، في ظلِّ هذا النظام وإستشراسه الدائم، لأنّ الطوائف تتصرّف وكأن مؤسسات الدولة إقطاعات شخصية يحقّ لها أن توزّعها على محازبيها كما تشاء.ولم تتشكل بعد قوى سياسية حيَّة بديلة، ترفض الحكم القائم، وتؤمن بالدولة المدنية وسيادة القانون، وضرورة كف يد رجال الدين عن التدخُّل السياسي، فالإنتماء الطائفي والمذهبي مرتبط بالدين بشكل وثيق ولا يمكن الإنفكاك عنه...وهو ما جعل حياة اللبنانيين جحيماً على مدى الأزمنة منذ تاريخ تأسيس الكيان الى يومنا هذا...
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية







مقالات ذات صلة