صناعة الفساد في وزارة التربية
*الدكتور رائد المصري
تبدو المافيات المذهبية المتحكِّمة في مفاصل الدولة اللُّبنانية وإداراتها ومؤسَّساتها عصيَّة على أيِّ وزير أو حاكم أو قاضي من خلال المحاولات اليائسة في مكافحة الفساد المزمن والمتعشعش في عظام ونخاع الإدارة، حيث بِتْنا اليوم أمام مشهدية متكرِّرة في وزارة التربية لتمارين على حروب دونكيشوتية متواصلة بعد تولِّي القاضي طارق المجذوب وإنكبابه السريع لمعالجة مِلفات الفساد والسمسرات والسرقات والتلزيمات، والتي وُوجه على أكثر من صعيد ومن أكثر التكتُّلات السياسية الملتفَّة مذهبياً وطائفياً للحافظ على الإمتيازات التي منحها لهم إياها هذا الِّنظام المشوَّه.
آخر هذه المعارك ومن أجل صرف الأنظار عن مِلفات الفساد التي إفتتحها الوزير المجذوب بمساعدة أحد أهم مستشاريه وتمَّت تنحيتها ولفلفتها، كان قراره الإرتجالي بإقفال مراكز الدائرتين التابعتين للمركز التربوي للبحوث والإنماء الكائنين في مبنى الوزارة على الأونيسكو الطابق السابع، واللَّذين كانا قد إستُحْدِثا من أجل التوازن الطائفي والمذهبي، الأول فيه رئيس دائرة سنِّي والثاني فيه رئيس دائرة شيعي وإغلاق المكاتب الملحقة لهاتين الوحدتين وإلحاقهما في المقرِّ الأساسي للمركز التربوي في الدكوانة لدى المدير العام فيه والمحسوبة على التيار الوطني الحر ندى عويجان.
مصادر مؤكدة من داخل الوزارة تقول بأنَّ الوزير المجذوب أصدر مذكرة مباشرة لإخلاء الغرف ووقف الدوام بغية الإلتحاق في المركز التربوي في سن الفيل كمبنى إضافي بالقرب من المستشفى الكندي، والسَّبب في ذلك كما تفيد أوساط الوزير الحاجة الملحَّة لهذه الغرف نظراً لضغط الموظَّفين المتزايد علماً أنَّ هذه الغرف قد تمَّ تقاسمها مع المعلوماتية التابعة للبنك الدولي وموظَّفيه.
رغم التدخُّل المباشر من قبل النائبين علي فياض وعلي بزي والفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان لدى الوزير المجذوب من أجل ثَنْيه عن إقفال الغرف إلاَّ أنه بقي مُصراً ولم يتراجع عن قراره، وبالسؤال عمَّا يجول ويدور في خاطر الوزير من إمكانية أن يكون داخل هذه المكاتب مِلفات ومحفوظات وداتا بيانات مهمَّة يريد الوزير كشفها أو الإضطلاع عليها، إلاَّ أنَّ كلَّ المؤشرات لا تنبيء بذلك، فقط بقيت مفاتيح المكاتب مغلقة رغم وجود الأغراض الشخصية لرؤساء الدوائر وسائر الموظَّفين من دون أن يكون لهم القدرة على إسترجاعها. وهذا يُظهر بوضوح محاولات التضليل التي كانت بعض الأوساط الإعلامية قد تحدَّثت عن إستقالة الوزير وهي حقيقة بسبب منعه عن القيام بإصلاحات ومكافحة الفساد، وهذه الأحزاب المتلطِّية خلف موظَّفيها تريد أن تضيع فرصة إستكمال ضرب الفساد أو إحالة ملفات خطيرة وتلزيمات كان قد فشل وزير التربية في إحالتها أمام القضاء، وللتظهير أمام الرأي العام أنَّ هذه الغرف التابعة للمركز التربوي للبحوث والإنماء هي مجرَّد فقاعة أو كبش فداء بأنَّ الوزير مصمِّم على المِضي في ملفات الفساد بينما الحقيقة هي غير ذلك تماماً.
لكن الأهم هو الخلاف الظاهر والعلني بين الوزير المجذوب وندى عويجان المحسوبة على التيار العوني تتعلَّق بملفات كشفها الوزير ومساعدوه وهي مِلفات مشبوهة باتت معروفة لدى كلِّ الناس، وكذلك التصادم الحاصل مع الجامعة اللبنانية والتدخل المباشر للنائبين علي فياض وعلي بزي على طريقة إستخدام ضربة على الحافر وضربة على المسمار كمستفيدين من هذا الخلاف أولاً ولصرف النَّظر وتوجُّهات الوزير المجذوب ولو قليلاً عن مِلفات الجامعة وما فيها وما عليها ثانياً.ومن هنا كانت إستقالة الوزير التي قدَّمها لفخامة رئيس الجمهورية التي تحفَّظ عليها كرسالة سياسية تجاه الموظفين ورؤساء المراكز التابعين للتيار الوطني الحر وللثنائي الشيعي.
علماً أنَّه ومن أجل عدم كسر إرادة الوزير أو التراجع عن قراره تتم محاولة من قبل مسؤولي حركة أمل وحزب الله على إستحداث مركز قريب من الأونيسكو في وزارة التربية في منطقة بئر حسن بمبنى دار المعلمين من أجل الإبقاء على هذا التقسيم الطائفي والمذهبي وكمَخْرج وتسوية تحصل على الطريقة اللُّبنانية، علماً أنَّ إعتراض الموظَّفين على نقلهم من مبنى وزارة التربية في الأونيسكو هو محاولة هروبهم من الأوامر المباشرة عليهم من رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء والتي تصطبغ أغلب هذه الأوامر والفرمانات على الموظَّفين بكيدية وفئوية وتأخذ المنحى الطائفي في تعاملاتها المستمرة معهم.
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية