الزراعة والصناعة ضرورة وواجب... ماذا عن اللُّصوص؟
*الدكتور رائد المصري
بهدوء...وردّاً على مقال الإعلامي المتألِّق ذو المواقف الوطنية والقومية الشجاعة وصاحب جريدة رأي اليوم الإلكترونية الأستاذ عبد الباري عطوان والتي كان لي شرف الكتابة فيها دوماً، حول مقالته التي حملت عنوان: "الجِهادان الزراعي والصناعي اللّذان أعلنهُما السيّد نص/ر ال/له هُما الطريق الأقصر للكرامة وخُروج لبنان من أزَماتِه"، رأينا من الضرورة الردّ على كلام السيد عطوان أو أقله التوضيح حيال ما يعيشه لبنان واللُّبنانيين من أزمات إقتصادية ومالية وإجتماعية صعبة وهو العارف بالطبع للكثير من تفاصيل الحياة السياسية وزواريبها والإنقسامات الحاصلة التي لا نريد الخوض فيها لكن:
عندما إنتفض الشعب اللبناني في 17 تشرين في ثورة الكرامة كان عنوانها الأساسي الإصلاح المالي والإقتصادي ومكافحة الفساد واللُّصوصية وسرقة أموال الخرينة العامة وإستباحة البلد ومؤسساته وإداراته طوال عقود، ومنها الثورة على حكم المصرف وحاكمه المركزي الذي رسم الهندسات المالية من وعلى حساب الشعب اللبناني ليوزِّعها على جيوب القوى السياسية والنافذين والمحظيين لتغطيته وتغطية إرتكاباته التي شكَّلت أكبر جريمة إنسانية بحق شعب في التاريخ…
والى اليوم لم يقف السيد حسن نص/را/لل/ه مع صرخة الناس وجوعها إنطلاقاً من الأجندات الخارجية التي يعتبرها متلطِّية خلف الناس المنتفضة والجائعة، وهذا غير صحيح بطبيعة الحال، وأثبتت التجارب صوابية ما أقوله، بل على العكس كانت هناك محاولات مستميتة لشقِّ صفوف الثورة_الإنتفاضة بطرح شعارات وعناوين تدخل عرضاً على المطالب الشعبية لناحية الإصلاح للتدليل على الإستحضار المتعمَّد للمؤامرة بحق المقاومة وفلسطين، علماً أنَّ أغلبية الشارع المنتفض وقواه اليسارية الحيَّة في الجنوب والنبطية وصيدا وصور وطرابلس وبيروت والبقاع كل البقاع، هم من المقاومين وأبناء المقاومين التاريخيين في لبنان وصراعه مع العدو الصهيوني..
وحتى بعد إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري حيث عمل حز/ب ال/له على دعم تشكيل حكومة الرئيس حسان دياب على إعتبارها قادرة على القيام بالإصلاحات اللازمة، ففشلت فشلاً ذريعاً، لا بل عجزت عن ضبط سعر الدولار وأسعار المواد الغذائية إضافة الى إفتعال أزمات الخبز والأفران والمواد النفطية وغيرها..لماذا؟ لأنَّ آليات الحكم في لبنان ليست بيد الدولة بل في يد المافيات: منها المافيات المالية، والبورصات، وشركات التحويل، والصرافة ومنها مافيات الإستيراد والتصدير للنفط والمازوت والتهريب، وكذلك مافيات الفيول المغشوش والمحمي من قبل أباطرة رجال السياسية والطوائف، ومنها مافيات المولدات الكهربائية التي تضغط كي لا تسير عجلة الإصلاح في الإنتاج الكهربائي وغيرها…
في ثورة الشعب اللُّبناني، نحن أول من أطلق إعادة إقتصاد لبنان إلى آلياته الإنتاجية الحقيقية القائمة على الزراعة والصناعة ليكون بعيداً عن إقتصاد الريع والخدمات والمضاربات المصرفية والهندسات التي إستفادت منها طبقة سياسية مذهبية وطائفية متطرِّفة، علَّقت شمَّاعتها على قضية تحرير فلسطين وإرتكبت كل الموبقات بحقِّ أبناء الشعب اللبناني منذ العام 1992 الى اليوم.
لقد أورد السيد عطوان في مقالته "عِشت العامين الأخيرين مِن حُكم الرئيس جمال عبد الناصر في مِصر أثناء فترة دراستي الجامعيّة، وكانت مِصر كلّها تأكل ممّا تزرع"…وهذا مهم لكن: في مصر كان عبدالناصر، أما في لبنان فهناك إقطاع سياسي وديني ونفوذ وسلطوية لأحزاب طائفية متنفِّعة، إستباحت الدولة والوطن ورهنته للمستعمر الأميركي حتى لا نقول الإسرائيلي وهي لا زالت مستمرة في إنتهاكاتها الى اليو..
كما أورد السيد عطوان كلاماً مهماً حول: "العودة إلى الزراعة والصناعة لا تُعيب الشعب اللبناني، كما أنّ توجّه حُكومته إلى الشرق، أي الصين وماليزيا وروسيا والعِراق وسورية وإيران، لا يُعيبها أيضًا، في ظِل الغطرسة والفُجور والإملاءات الأميركيّة، وتجاوزات السفيرة الأمييكيّة الوقِحَة التي ما كان لها أن تبقى في لبنان ساعةً واحدةً بعد تطاولها على المُقاومة وسِلاحها وقِيادتها" (انتهى الإقتباس)…وليس من أحد يرفض هذا الطرح المهم الذي يعزِّز سيادة لبنان وكرامته، ولكن:
أين كرامة اللبنانيين المصطفين أمام البنوك ليحصلوا من أموالهم على الفتات؟
أين كرامة اللبنانيين المصطفين أمام الأفران من أجل ربطة الخبز التي إحتكرتها مافيات التهريب؟
أين كرامة اللبنانيين الذين لا يجدون قوتَ يومهم والمصطفين على أبواب المستشفيات ولا علاج أو أدوية لهم؟
عندما إخترنا وإختار الشعب اللُّبناني الإنخراط وعن قناعة في محور المقاومة، ومواجهة الصَّلف الصهيوني والإستعمار الأميركي، فهو لأجل العيش بحرية وكرامة وتحصين الأبناء والأجيال للمستقبل، فكيف تريدون منا اليوم السير على هذا المنوال -ونحن ما زلنا مؤمنين به أصلاً- في ظلِّ الإنحدار وهدر كرامة اللبنانيين وإستمرارية جوعهم وصراخهم على الطرقات؟
ما أورده السيد نص/رال/له كمخرج مهم للأزمة في لبنان، لكننا لن نسير بها للأسف في ظلِّ وجود سلطة سياسية لا زالت بنفس الذهنية التحاصصية التي نَهَبَت أموال الناس والمودعين وخزائن الدولة وتريد من جديد أن ترهِنَه لصندوق النقد الدولي…فهذه السلطة السياسية الطائفية والمذهبية والمتلحِّفة بالثوب الديني لإستخدامه من أجل تطويع الناس لن تنفع معها أي محاولات لإصلاح البلد لأنَّ العطل فيها وبها ولا يمكن التعايش معها…
لقد أعادت هذه السلطة السياسية ومافياتها اللبنانيين مئة عام الى الوراء ويريدون منهم اليوم البدء بالزراعة والصناعة من جديد (بغض النظر عن طرح سيد المقاومة ونيته الطيبة) في بنية إنتاج حقيقية، تعوِّم من جديد هذا الإقطاع السياسي، وتكرِّس هيمنته على البلد مع تفريخ أولادهم وأحفادهم في إعادة تدوير للحياة السياسية وبقاء تسلطهم مئة عام أخرى…لن يفعل اللُّبنانيون ذلك إلاَّ إذا أُعِيد المال المنهوب الى الدولة، وإستُعيدت الأموال المهرَّبة الى الخارج نحو الداخل اللبناني، وإلاَّ إذا تمَّت محاكمة الفاسدين واللُّصوص والمحميين بقوة الدين والطوائف، فهذا وحده كفيل بوضع لبنان على سكَّته الصحيحة، وإلاَّ كلا لن يصير ولن ندعهم يحكموا بعد اليوم.
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية